الرئيسية سياحة صحافي سوداني يروي مشاهداته لمدينة أكادير.. سياحة وجمال وسكانها يفضلون الحديث بالأمازيغية

صحافي سوداني يروي مشاهداته لمدينة أكادير.. سياحة وجمال وسكانها يفضلون الحديث بالأمازيغية

كتبه كتب في 18 يوليو 2018 - 15:55

جنوبا وعلى بُعد 509 كيلومترات من الرباط، كانت الوجهة صوب مدينة أكادير. أكثر من ثماني ساعات مروراً بالطريق السيّار؛ مسيرة متعبة لكنها مُمتعة، مناظر طبيعية عن يمينك وعن شمالك، جبال حمراء وأخرى سوداء، منحوتة ومرسومة بأصابع الديناميت! طرق فرعية دائرية وحلزونية، منحدرات ومَطبات، مصارف مياه إسمنتية، أشجار وحشائش وغابات، تليها سدود وطرق مُستقيمة معبّدة، وأنفاق مُغطاة ومُجهّزة بمرافق سلامة عالمية، وشمس دافئة، وبدر منير!

ولعل أشهى ما تتوق له نفسي، وأمتع ما يطمئن له جناني: جولات أقوم بها في مختلف البلاد، لا فرق عندي بين سهل وغور، وبدو وحَضر، أركب الصعاب وأهبط في التراب، وأحتمل الألم، وأتلذّذ بالعذاب!

وهنا، أتذكّر قول الشاعر عمر الخيام في رباعيته الشهيرة:

فما أطال النومُ عمراً ** ولا قصر في الأعمارِ طول السهر

احذر، عند مدخل مدينة أكادير، هنالك أكثر من 300 تمساح في انتظارك، منها تماسيح النيل آكلة البشر! لا لا لن تمسك بسُوء، فأنت في حديقة (Croco Parc) المائية البديعة، والتماسيح في أقفاصها وديعة!

المُحيط والوادي!

أخيراً دخلت المدينة بسلام مع الظهر، وكانت الشمس في كبد السماء، والهدوء يُغطِّي المكان إلى درجة أنني وأنا خارج من محطة الوصول شعرت بأن ثمة فخاً مُحكماً منصوباً لي… لا، لقد كان ذلك نهار سبت ليس إلا!

أكادير بدت لي في أيامي الأولى مدينة صغيرة وحديثة كلياً من طرقها ومحلاتها وأسلاك الكهرباء وخطوط المياه وموديلات السيارات في شوارعها ومبانيها البيضاء ورائحة طلاء جدرانها التي ما تزال عالقة… وعرفت لاحقاً أنها قديمة قدم الحبر، ولكنها تعرّضت لزلزال مدمر مطلع العام 1960م، أهلك الحرث والنسل وأخفى جزءاً كبيراً من معالمها، وبعدها أُعيد إنشاؤها وتصميمها، لتكون بشكلها الراهن الزاهي، مُدوّنة في دفاترها آثار ذكرى سوداء حالكة هالكة، وفاتحة صفحة جديدة من الانبعاث والحياة!

تطل المدينة على ساحل المُحيط الأطلسي، وتُحيط بها سلسلة جبال الأطلس الكبير ومرتفعات صخرية وترابية، وهي تبدو كالوادي… المشارقة وأهل الخليج يطلقون عليها “أغادير”، وهذا خطأٌ، وكتابتها أو نطقها هكذا يُزعج أهل المدينة! وهي “أكادير)”؛ اسم أمازيغي أصله فينيقي، ويعني المخزن الممتلئ بالحبوب أو الحائط المتين (الحصن)؛ إذ كان سكان المنطقة في السابق يُخزِّنون فيه منتوجاتهم وموادهم التموينية ومعادنهم تحسباً لمواسم الجفاف وأوقات الحاجة!

يبلغ سكان المدينة حالياً نحو ثمانمائة ألف نسمة، غالبيتهم العظمى من الأمازيغيين (سوس)، ويشتغلون في التجارة بشكلٍ أساسي، وأيضاً في الصناعة والسياحة والخدمات… المدينة تتوسّع وتزيد استقطاب السكان من المدن والضواحي والأنحاء المُجاورة وغير المُجاورة لتكون أكادير واحدةً من المُدن المَغربية الأكثر كثافةً، ومركزاً سياحياً عالمياً.

وقبل أن أباشر إجراءات تسجيلي للدراسات العليا، تَمّ قُبُولي للدراسة في مدينتين: الأولى كانت مكناس والثانية أكادير؛ مَا منحني فُرصة التفكير والاختيار، فبحثت عن الجامعة والتَخصُّص المُناسبين، ومن ثم عن معالم المدينتين ومميزاتهما وتضاريسهما وعدد من المعطيات، وقارنت بينهما، ففضّلت الثانية على الأولى!

أكادير، مدينة سياحية بالدرجة الأولى، هواؤها عليل، وسحابها ظليل، ونخيلها قليلٌ… ويُفضِّلها الأوروبيون، خاصة الألمان، لأنها تتميّز بالسياحة الشاطئية، وجوها المشمس والمُعتدل طوال العام، فيها شواطئ كثيرة مُخَصّصة للسباحة، لم أمل أو أكل من زيارتها، كـشاطئ أكادير وتغازوت وإموران وأورير والمخيم وأغروض… وسبحت في الكيلو 17 و22 و25 و26…

بعد كل هذا هل تعتقد أنني دولفين، أو أجيد السباحة كمايكل فليبس مثلاً؟! فظنك خاطئ تماماً، فأنا من أولئك النفر الذين “يجلبطون ويبلبطون” في طرف البحر، ومن ثَمّ يضحكون ويعودون سريعاً إلى اليابسة! لكن ذلك لم يمنعني من الاستمتاع به والذهاب إليه أسبوعياً.

والناس جاؤوا إلى هذه المدينة وفي نيتهم شيءٌ واحدٌ: أن يستريحوا على الآخر، أن ينسوا هُمُومهم ويرمونها للبحر.

وبجوار القصر الملكي، تصطف فنادق كثيرة ومقاهٍ حديثة وملاعب تنس وملاهٍ ليلية ونهارية ومجموعة مارينا” وساقية دائرية عالية لا تكف عن الدوران… في كل مرة أمر بتلك المنطقة أرى الناس يتمدّدون من على بلكونات الفنادق وشرفات الغرف أو على رمال الشاطئ الذهبية اللامعة، يسرحون أو يسْبحون أو ينسجون أحلامهم أو يغوصون تحت الماء أو يتزلجون فوقه بالجوانح الهوائية أو بالدّراجات أو يرسمون أو يلعبون كرة الطائرة والقدم على الرمل الناعم المُبلّل.

والمُفارقة أنّ أغلب السياح، وخَاصّةً القادمين من الغرب، رأيتهم يقرؤون الكتب والمجلات في الشاطئ وهم مسترخيون. أما العرب، فيحاولون قراءة ماركات مايوهات وأجساد الأوروبيات بنهم وتركيز لا مثيل له!

في تلك المنطقة الحياة هادئة وناعمة جداً، وكل الناس هنا معهم فلوس وأغنياء، ولا يشكون من ارتفاع الأسعار مثلي، ولا يضعون أيديهم على جيبوهم كثيراً!

تجربة الجمال!

على ارتفاع يفوق 230 متراً، تقف أهم معالم المدينة وهي القصبة العليا، أو ما يُطلق عليه أكادير أُوِفلا، ورغم ما لحقها من أضرار الزلزال وأعراض الإهمال، إلا أنّها مازالت تحتفظ ببنيتها وهيكلها العام، حيث كانت درعاً واقياً من غزو البرتغاليين ومدفعاً بَتّاراً يقصف أساطيلهم دُون رحمة، لقد شيّدها السعديون وأشاد بها من بعد المُؤرِّخُون الغربيون!

وفي يوم من الأيام دفعني الغرور إلى أن أشق طريقي سيراً على الأقدام وسط الغابات والجبال بعيداً عن الطريق المُعبّد، فتهت! مَا دفعني إلى العودة من حيث أتيت، بعد أن ضاق صبري وتألمت قدماي وشتت ذهني، وتلقيت درساً قاسياً هو: ألا أكون مَغروراً وأحمقاً!

ومن بين المعالم “حديقة الطيور”، وهي عبارة عن قفص كبير يحتضن عشرات الأنواع من الطيور الشائعة والنادرة، وبعض الحيوانات الأخرى، الدخول إليها مجاناً، ولذلك تُحظى بإقبالٍ كَبيرٍ من الزُّوّار المَغاربة، وحتى السّيّاح الأجانب يحبون المَجّان!

وهنالك بقعة ساحرة، وجوهرة على أرض سوس وهي “Paradise” وادي الجنة، التي تتميّز بأعينها الضحلة، وصخورها الضخمة الناعمة، وطحالبها الجاذبة، يستعرض فيه الناس مهاراتهم في القفز البهلواني على الماء، رأيت فيه الجَمال يمشي على قدمين.

وباب الأحد هو الآخر لا يمكنك ألا تدخله، وهو من الأسواق التقليدية العالمية… وزرت ضواحي أكادير من مناطق ومدن كتارودانت التي تشتهر بالفلاحة، وخاصة الحوامض، إضافة إلى تيزينيت المشهورة بإنتاج الفضة، وإنزكان…

والناس في أكادير يفضلون الحديث بالأمازيغية (تشلحيت)، ولا يتحدثون بالدارجة العامية أو الفرنسية إلا للضرورة، إنها اللغة الرسمية هنالك ولا تعلو عليها أية لغة، ويغلب على سكانها التدين والحكمة، ويتعاملون مع الغرباء بحذر، ويشاع أنهم شحيحون، ولكن أراهم غير مسرفين.

الحديث عن هذه المدينة ليس بالسهل إطلاقاً، فأنا لم أمر بها مرور الكرام أو اللئام، أو أقضي فيها بضع ليالي كسائح مترف، أو كتاجر جشع… بل سأقيم فيها لمين كاملين لإكمال دراستي في جامعة ابن زهر الرائدة.

إذن سأفتح حقيبة سفري بالكامل وأفرغها، سأعيش كما يعيش أهلها، وسأبدأ في التغلغل إلى قاع حياتهم، وأحاول النفاذ إلى قمتها، وأثقب ببطء قشروها البراقة، وأفهم كلمات موسيقاهم الرنانة، وسأمشي في الأسواق، وسأجلس في كرسي الحلاق، وأخالط الناس، وسأستنشق الهواء النقي وثاني أوكسيد الكربون، وسأمرض كيفما يمرضون، وسأضحك لما يضحكون، وسآكل مما يأكلون، وسأغسل ملابسي وأعلقها في سطح المنزل، وسأعيد تعبئة أسطوانة الغاز مرارً وتكرارً، سأشتري المُلح وسأبيع الكثير…

حياتي في أكادير حياة كاملة الدسم والرسم. وكانت تجربة كبرى بالنسبة إلي، فضلت أن أخوضها بوحدي بلا رفيق ولا فريق!!

صحافي سوداني مقيم بالمغرب

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *